Translate

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

تجربة العدالة الانتقالية في نسختها المغربية

على العموم تشير تجربة العدالة الانتقالية في نسختها المغربية، عددا من الخلاصات والاستنتاجات المركزية نوردها كما يلي:
الخلاصة الأولى:
إذا كانت الدولة المغربية قد اعترفت بمسئولياتها فيما وقع وكشفت جزءا مهما من ماضي المغرب المتعثر، فإن الدولة غيبت عنصراً أساسياً من عناصر العدالة الانتقالية، ويتعلق الأمر بعدم الإفلات من العقاب، وإذا كان عدد من لجان الحقيقة عبر العالم قد أبدى منهجية خاصة في التعامل مع مبدأ المحاكمات ومعاقبة المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن التعامل المغربي في استثنائه التعامل مع هذا المبدأ قد ترك ثغرة قد لا يكون لها الأثر الفعلي لتحقيق المصالحة مع الماضي.
الخلاصة الثانية:
إذا كانت المساءلة تلتقي مع مبدأ عدم الإفلات من العقاب في مسألة أساسية وأولية هي ضرورة الوقوف على الحقيقة، واعتراف المنتهكين بما اقترفوه، فإنهما يختلفان من حيث النتائج: إذ مبدأ عدم الإفلات من العقاب ينصب على العقوبة الجنائية أكثر من غيرها، في
حين أن المساءلة قد لا تنتهي بالضرورة بالعقاب الجنائي، وإنما بنتائج إدارية أو مالية أو حتى سياسية. وهذه النتائج قد تكون بحكم أو بمجرد اتفاق في إطار المصالحة، واعتمادا على هذا التمييز بين المبدأين يبدو أنه كان أمام هيئة الإنصاف والمصالحة اختيار اللجوء
إلى المساءلة الذي لا يؤدي حتما الى العقاب الجنائي، خاصة أن الهيئة نفسها ستند على قاعدة الاعتراف بالانتهاكات والكشف عن الحقيقة ، وبالتالي فإن النتيجة الحتمية لاعتماد تلك الحقيقة هو الاستماع إلى اعترافات المنتهكين والمذنبين عوض الاكتفاء بالاستماع على أنين الضحايا، واعتمادا إلى ذلك يمكن ترتيب أمرين اثنين:
١. إبعاد المسئولين عن الانتهاكات من الوظائف والمهام وعن مواقع المسئولية التي مازالوا يمارسونها ومنعهم من تولي أي مهام أو مناصب أو مسئوليات عمومية في المستقبل.
٢. مصادرة أموال وأملاك المنتهكين واعتمادها أساسا لتعويض الضحايا علما بأن الدولة تحل محل موظفيها المتسببين في الضرر في تعويض ضحاياهم في حالة عجزهم عن ذلك.
وهذا ما يمكن أن يكون له الأثر الجيد على التجربة المغربية بل وعلى إمكانية استلهام الاجتهاد من تجارب أخرى قد تنحو نحو المغرب في المنطقة العربية والإسلامية مستقبلا، خصوصا مع هذا الربيع العربي من الديمقراطية الذي أتى على أنظمة عربية بكاملها، وما
يستتبع ذلك من تصفية ماضي انتهاكات تلك الأنظمة السائدة.
الخلاصة الثالثة:
إن عدم اعتماد هيئة الإنصاف والمصالحة على الأقل في الجانبين المذكورين أعلاه يهدد بجعل عملها ككل دون قائدة في تحقيق هدف عدم تكرار ما جرى الذي رسمته الهيئة لعملها، إذ لا توجد ضمانة لعدم التكرار ما دام الجلادون باقين في مناصبهم بل ومنهم من
يتمتع بحصانة أو حصانات، ومنهم من لايزال يتمتع بثروات مالية مهمة جناها من الصناديق السوداء أثناء سنوات الرصاص، فضلا عن ذلك فإنه لا يوجد أي أساس قانوني لتعويض الضحايا من خزينة الدولة التي هي أصلا أموال الشعب عوض تعويضهم من أموال الذين تسببوا لهم في تلك الأضرار.
إننا نعتقد أن عدم اعتماد مبدأ المساءلة هو الذي جعل، أو على الأقل شجع عددا من المسئولين الحاليين والسابقين يرفضون تقديم المساعدة للهيئة وتقديم أي معلومات لها، أكثر من ذلك أن عددا منهم مازال يطل على المواطنين ويحدثهم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وعن الانتقال الديمقراطي، وفي ظل هذا الوضع يصبح من الصعب الحديث عن طي صفحة الماضي أو استعادة ثقة المواطنين في القانون والمؤسسات والذي يعتبر أساس كل انتقال ديمقراطي.
الخلاصة الرابعة:
أنه رغم المؤاخذات الممكنة بخصوص استبعاد الهيئة لعدد من الضحايا من نطاق جبر الضرر، كمعتقلي تاكونيت، وقضية تلاميذ أهرمومو وضحايا الحملة التطهيرية ١٩٩٥ - ١٩٩٦ ، فإن الهية بذلت جهودا محمودة في توسيع الاستفادة من جبر الضرر إلى ضحايا
آخرين، يشمل إلى جانب ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، ضحايا التعذيب والوفاة في السجن والاغتراب الاضطراري أو الاختفاء داخل الوطن ونهب الممتلكات والوفيات خلال أحداث جماعية.
مفهوم جبر الضرر الفردي يشمل إلى جانب التعويض المالي، تسوية الأوضاع القانونية والإدارية والإدماج الاجتماعي بما فيه متابعة التكوين والتعليم المهني والتأهيل الصحي ونصح الضحايا في نظام التغطية الصحية. أما جبر الضرر الجماعي فهو يستهدف
المجموعات والمناطق التي تضررت بفعل الانتهاكات الممنهجة والتي شملها التهميش وعدم الاستفادة من المشاريع التنموية: وتمثل جبر الضرر الجماعي كما أعلنته الهيئة في عدة أشكال، من ضمنها إقامة مشاريع تنموية اقتصادية وثقافية بتعاون مع السلطات وتنظيمات
المجتمع المدني وتحويل بعض مراكز الاعتقال غير القانونية إلى مشاريع تنموية وبالتالي بناء الذاكرة الجماعية.
الخلاصة الخامسة:
ينبغي استحضار مجموعة من الإكراهات التي واكبت أو صاحبت أو اصطدمت بها الهيئة في عملها، حينها كمدة البحث والأشغال حول ما يقارب أربعة عقود من الزمن ١٩٥٦ - ١٩٩٩ ، بمعنى أنها كانت مطالبة بأن تبحث في الانتهاكات التي وقعت مباشرة بعد
الاستقلال السياسي لبلادنا، وطول المدة يطرح دائما مجموعة من الصعوبات، سواء على مستوى تجميع الأدلة، أو على مستوى الشهادات، أو حول الحد الذي كان فيه المغرب يتوفر على أرشيف وهو خارج للتو آنذاك من معركة الاستقلال. وبمعنى أنه أمام طول المدة فلا بد أن تصطدم أي لجنة للحقيقة أحيانا باندثار الأدلة وانقراضها وانقراض من عاصروها، ومع ذلك تمكنت هيئة الإنصاف والمصالحة في اشتغالها عن هذه الفترة التاريخية من إعداد أرشيف هائل من المعلومات عن الضحايا والانتهاكات ومرتكبيها، حيث يبدو أن ملفاتها تتميز بحسن التنظيم واستيفاء التفاصيل الدقيقة، وهي بذلك تقدم وصفا تاريخيا حافلا لانتهاكات الماضي، وإلى جانب ذلك الأدلة الكافية اللازمة لجهود المساءلة والإصلاح المؤسسي في المستقبل.
الخلاصة السادسة:
بالنسبة للاعتذار كانت التوصية الخاصة باعتذار الوزير الأول عن مسئولية الدولة مسألة إيجابية من حيث المبدأ، بيد أنه سيكون الأمر أكثر رمزية بل ومردودية على الصعيد الوطني والدولي، وأكثر جبراً وتعزيزاً لكرامة الضحايا وأبعد أثرا. أن يقوم الملك بهذا
الاعتذار بالنظر لمركزه الدستوري والسياسي بصفته رئيس الدولة، ورمز وحدتها وحامي الحريات الفردية والجماعية... ألم يقم نيلسون مانديلا وهو الضحية السابق بتقديم الاعتذار؟
الخلاصة السابعة:
أصدرت هيئة الإنصاف والمصالحة بعد انتهاء أشغالها تقريرها الختامي الذي تضمن مجموعة من التوصيات الوجيهة والمهمة، وذلك بطلب من الملك باعتباره أعلى سلطة دستورية وسياسية في المغرب، ما يخولها أساسا قانونيا ضمن النظام الدستوري المغربي،
في جميع الحالات ينظر إلى التوصيات الصادرة عن جهاز خولت له صلاحية إصدارها على أنها تضع على المخاطين بها التزاما أخلاقيا ومعنويا بقبولها والعمل على تنفيذها وفق أقصى ما تسمح به صلاحياتهم القانونية وإمكانياتهم المادية، وما يكون قد حصل من إجماع سياسي على اعتبار تنفيذ هذه التوصيات مسألة تخدم الصالح العام. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة اقتراحات تحظى بقبول سياسي ودعم واسع في المغرب وخارجه ولاسيما بالنظر لواقعيتها وانبثاقها عن خلاصات تحريات الهيئة وسعيها لضمان جبر ضرر الضحايا والمجتمع، ولعدم تكرار الانتهاكات وترسيخ دولة الحق والقانون، لكن لحد الآن، لم تعرف هذه التوصيات التوجيهية أي صدى، خاصة تلك المتعلقة بالإصلاحات الدستورية والقانونية والحكامة الأمنية والمصادقة على نظام المحكمة الجنائية حتى لا يتكرر ما جرى في الماضي، ذلك أن هناك من التوصيات ما يمن إنجازه خلال بضعة أشهر فقط ١، كمباشرة الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية الهامة وغيرها.
الخلاصة الثامنة:
في مجال استكمال الكشف عن الحقيقة، أوصت هيئة الإنصاف والمصالحة باستكمال البحث في حقيقة ٦٦ حالة تتعلق بالاختفاء القسري، هي لحالات شهيرة مثل المهدي بنبركة والحسن المانوزي وعبد الحق الرويسي، وفي حقيقة الأمر وواقع الحال إنه لمن المؤسف جداً ألا يقضي عمل هيئة الإنصاف والمصالحة إلى نتيجة أو تقدم بخصوص هذه الملفات وغيرها.
كما مازال ذوو حقوق الضحايا في الأحداث الاجتماعية في الدار البيضاء لسنة ١٩٨١ ( ١١٤ ضحية) أو فاس ١٩٩٠ ( ١٠٩ ضحايا) أو الناضور ( ١٣ ضحية) أو الحسيمة ( ١٢ ضحية) أو تطوان ( ١٣ ضحية)، مازال ذوو هؤلاء الضحايا لم يتوصلوا بعد إلى أماكن
دفنهم فضلا عن تحديد هوية كل واحد منهم قصد الترحم على قبره... كما تحتاج منطقتا الريف والصحراء إلى لجان خاصة للبحث والكشف التاريخي لما حصل فيهما.
الخلاصة التاسعة:
تندرج سياسة العدالة الانتقالية بالنسبة للدولة في سياق خاص، هو ما يسميه الخطاب الملكي "بالتغيير داخل الاستمرارية".
فأما المصالحة بالمفهوم المغربي فهي تلبية لنداء ديني / سياسي قوي قوامه الحقوقي: صفح /جماعي/جميل، وهو المدخل الأساس الذي يجعل المغرب من هذا المنظور بالذات، يتحرر من هذا الماضي المزعج الذي انتهكت فيه الحقوق السياسية والمدنية للمغاربة ٢.
أما المساءلة في سياق هذا الزخم الوجداني العميق لمفهوم "الصفح" فإنها تلبس ثياب مكارم الأخلاق لتتطهر من دنس كل الفظائع القديمة التي ارتكبت باسم الدولة، لكي تنزع بذلة المحاسبة، وتغادر تواً حقل السياسة كحقل للمحاسبة والمساءلة فتوضع بالتالي بعيداً عن
طاولة التفاوض الحقوقي، إن لم يكن خارج جدول العمل السياسي. وبناء على هذا الزخم الديني القوي الذي يحوم حول قضية المساءلة كما أريد لها أن تطرح في "العهد الجديد" فإن مفهوم الإنصاف بدوره يغادر حقله القضائي باعتباره سيلزم الاعتبار الحقوقي، ليتربع على كرسي رد الاعتبار المعنوي أو السيكولوجي، لتقترن، عمليا وبشكل ملموس دلالة جبر الضرر بدلالة جبر الخاطر، بالتالي التخفيف من شدة الإحساس بالظلم والنسيان. وصفوة القول، فإن تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة شكلت برأي كبريات المنظمات
الدولية لحقوق الإنسان، كمنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتس، والمركز الدولي للعدالة الانتقالية أقول شكلت سابقة يمكن أن تكون لها أصداؤها التي تتردد في شتى بقاع العالم العربي ، حيث راقبت جماعات المجتمع المدني وراقب المسئولون الحكوميون في
الجزائر ولبنان والبحرين والعراق وبعض الدول الأخرى التي عرفت سقوط أنظمتها السلطوية مع رياح الربيع العربي كمصر وتونس وليبيا، ما فعله المغرب مراقبة وثيقة وهم ينظرون في الخيارات المتاحة لهم للتصدي للماضي الذي تشوبه المثالب في كل بلد. ومع
ذلك فعلى أهمية ما تحققت، فإن هذه الخطوة الأولى فقط في اتجاه معالجة الملف، وأن مصداقية السلطات تبقى رهينة بالخطوات التي ستتخذ لتفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة.

تجربة العدالة الانتقالية في المغرب -عبد الكريم عبد اللاوي -تقديم: هاني مجلي
شارك بنشر تلك المادة الزميل: محمد الناصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق