Translate

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

العدالة الانتقالية في اسبانيا، الأرجنتين وتشيلي

بشكل عام، إذا قارنا تدابير العدالة الانتقالية التي اتخذت في هذه البلدان الثلاثة، يمكن القول أن الأرجنتين وشيلي ذهبتا  إلى مسافات أبعد من حيث التوضيح العلني للحقيقة (وقد تم إنشاء لجان لهذا الغرض في كلتا الحالتين). فقد نجحوا في التقديم للمحاكمة وسجن بعض من المسؤولين عن أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان، حتى عندما كانت القوانين السارية المفعول في  هذا الوقت من المفترض  ان تمنع ذلك (قانون العفو في شيلي وقانون النقطة الأخيرة في الأرجنتين). تم التحايل على هذه القوانين بشكل أكثر كفاءة مما كان عليه  الحال في أسبانيا، بفضل الضغوط التي مورست من قبل المجتمع و بفضل موقف بعض القضاة - الذين لم يترددوا في اللجوء إلى القانون الدولي – وبفضل الإرادة السياسية الحازمة. قامت هذه البلدان أيضا بتعويض رمزي أكثر إقناعا ووضوحا للضحايا مقارنة بإسبانيا.
ومع ذلك، اخذت الإصلاحات المؤسسية في شيلي وقت  أطول و لم تكتمل مثل حالة البلدان الأخرى. و بصفة عامة، بغض النظر عن الاستقرار السياسي الذي لا شك في أن المجتمع الإسباني  يتمتع به اليوم، فإن غياب الإصلاحات العميقة  و الجذرية في العديد من المؤسسات الرئيسية، مثل الشرطة والقضاء، توضح الأرقام العالية فيما يخص قمع الدولة طوال الفترة الانتقالية ، وكذلك الإفلات من العقاب مع اليمين المتطرف الذي حكم خلال هذا الوقت. وهناك أمثلة وفيرة من التواطؤ بين اليمين المتطرف والقضاة وقوات أمن الدولة. و بناءا عليه فحتى الآن ترفض المحكمة العليا جميع طلبات إعادة النظر في المحاكمات التي جرت خلال  فترة فرانكو.
بالنظر للتعويض المادي للضحايا في كل من البلدان الثلاثة ،فقد تم منح معاشات أو مدفوعات  في كل الأحوال ، ولكن في الحالة الاسبانية اخذت تلك العملية وقت أطول، وهناك بعض الفراغات التي من المهم شغلها. من تلك الفراغات الرئيسية من حيث التعويضات المادية والمعنوية: هناك أولئك الذين لقوا حتفهم لأسباب سياسية، ولكن ليس خلال الحرب الأهلية أو نتيجة لذلك (على سبيل المثال، من خلال أعمال العنف من الحرس المدني أو الشرطة في جميع أنحاء الدكتاتورية بأكملها). فإذا لم يكن هناك صلة مباشرة للضحايا بالحرب الأهلية أو عواقبها المباشرة، لا يتمكن أقاربهم من الحصول على معاش تقاعدي، ولا يعترف بجريمة عند وفاتهم بأي شكل من الأشكال. وبالمثل، لا يوجد أي تدبير من أي نوع فيما يخص أقارب الذين أعدموا من خلال حكم قضائي في فترة الدكتاتورية، بغض النظر عن ما إذا كان المعاقب  مرتبط بالحرب أم لا من الأساس. و بناءا على هذا ، فيمكننا القول  حتى في الوقت الحاضر، أن الديمقراطية الإسبانية تنظر إلى هذه الأحكام القضائية على أنها صحيحة، لأن أيا من الأقارب  للضحايا عرض عليه التعويض، كما انه لم يعترف أصلا بالضحايا، ولم يتم ابطال اي حكم منهم. أخيرا، و بعكس الحالات الأخرى، فلم يتم دفع  أي نوع من المعاش التقاعدي لمن تعرض للتعذيب  ، ولم يتلقى من لا يزال في المنفى أي مساعدة لمساعدته في عودته للوطن.
قد يعتقد المرء أن الاستقرار السياسي والاقتصادي الكبير الذي تمتعت به إسبانيا نسبيا في السنوات العشرين الماضية - أكبر في أي حال من شيلي و الأرجنتين - من شأنه أن يسمح لانتهاج سياسات أكثر جرأة للجبر. لكن والحقيقة هي أن في إسبانيا كانت القوة الدافعة الاجتماعية ضعيفة للغاية، خاصة إذا ما قورنت بالبلدان الأخرى. على الرغم من أن الأمور قد بدأت تغيير مؤخرا في إسبانيا، حيث توجد مجموعات هناك لديها الكفاءة و  القدرة على التعبئة مثلها مثل العديد من منظمات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر، في جنوب المخروط. وعلاوة على ذلك، كما ذكر سابقا، لم يلعب القضاة نفس الدور في إسبانيا كما هو الحال في البلدين الآخرين. فلم يفسروا القواعد بطريقة مرنة، و لم يلجأ أحد للقانون الدولي لملاحقة تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، مثل الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري، من خلال التذرع بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت عليها إسبانيا. فبالإضافة إلى اللجوء إلى القانون الجنائي الدولي، عمل العديد من رجال القضاء في الارجنتين والتشيلي  بشكل وثيق جدا مع منظمات حقوق الإنسان في محاولة لإيجاد ثغرات في تشريعاتها الوطنية، بهدف تعزيز بعض أسباب رفع الدعاوى القضائية.
و هناك  خصوصية  أخرى للحالة الإسبانية  و هي حقيقة أن قانون العفو الإسباني سبق كل الانقلابات التي قادها القادة العسكريين، في حين أن قانون الطاعة الواجبة و قانون النقطة الأخيرة في الأرجنتين على وجه التحديد قد وجدوا من أجل وضع حد لهذه المحاولات الإنقلابية.
و في حين أنه في الأرجنتين كان قانون النقطة الأخيرة مفيد لتهدئة القادة العسكريين،  لم  ينجح قانون العفو في إسبانيا العفو  في جعل القادة العسكريين يتخلون عن نوايا الاطاحة بالحكم القانوني و الديمقراطي. و لم يكن الغرض الأساسي هو العودة للحكم العسكري و انما ، الإفلات من العقاب بمعاونة اليمين المتطرف في كل الأحوال فبعد أربع سنوات من قانون العفو، كانت هناك محاولة انقلاب خطيرة (سبقتها وتلتها محاولات أخرى تم احباطها) واليمين المتطرف معروف بزيادة مستوى العنف السياسي، مما أدى إلى وفاة 52 شخصا بين عامي 1978 و 1982.
يبدو غريبا أن في إسبانيا، بعد كل الحديث على مدى العقدين الماضيين حول المقابر الجماعية، والمختفين، والأطفال المخطوفين و الجرائم التي لا تسقط بالتقادم  التي كان ينبغي أن تكون هدفا للملاحقة القضائية، أن نشعر أننا ما زلنا بعيدا على أن نصل إلى تسوية لذلك. الكفاءة التي قام نظام فرانكو من خلالها باخفاء جزء كبير من جرائمه، وطول الوقت الذي مر منذ المرحلة الأكثر قمعا من النظام والرغبة العامة، وليس فقط على من جانب السياسيين ولكن أيضا الغالبية العظمى من المواطنين، بعدم الخوض في مثل هذه الماضي المأساوي، و هذا يوضح المفاجأة التي تصيبنا عند الكشف عن بعض تلك الأحداث  التي كانت مرتبطة بالآثام المذكورة أعلاه . الرضا الكبير والاعتزاز حتى اليوم، بنموذج التحول الديمقراطي الإسباني  بين مواطنيها، لا يتعارض مع الاعتراف بأن إسبانيا يمكن أن تذهب إلى الأمام في الاتجاهات التي تم تجنب التطرق إليها سابقا أو كان هناك حتى استحالة لذلك. صحيح أنه قد تحققت أهداف رئيسية كثيرة للفترة الإنتقالية وأهمها: توطيد الديمقراطية في إسبانيا. ولكن هناك الآن قطاع من قطاعات المجتمع يقترح تجاوز التهاون في عملية التغيير السياسي. العديد من إنجازات جديرة بالثناء، ولكن من الممكن الآن التقدم أكثر إلى الأمام في مجالي جبر الضرر، والعدالة. أهمية هذه التدابير هو حدوثها  في سياق وطني، لتوضيح الديمقراطية  الأكثر توحدا و مع تنامي المطالب الاجتماعية، و مع وجود المناخ الدولي الذي يعارض بشكل متزايد الإفلات من العقاب. و لا تعني هذه التدابير افساد  الاتفاق  بين المؤسسين للديمقراطية الإسبانية (كما يشاع على مقاعد المحافظين)، ولكنها تأتي تتويجا لعملية المصالحة الوطنية التي لها جذورها في الديمقراطية في البلاد.
ويبدو أنه في الحالة الإسبانية المشكلة تكمن في كون المجتمع لا يزال غير جاهز لتعزيز تدابير جريئة مثل تلك التي اتخذت في البلدان الأخرى. إذا كان هذا صحيحا في المجتمع كله، فلعله أكثر صحة (وفقا لتحليل للدراسة عام 2005 من قبل مركز بحوث علم الاجتماع / سنترو دي لأبحاث بشأن هذه المسألة) مع سكان في المناطق الريفية - حيث وجدت هناك مقاومة قوية للنبش في الماضي - و الغريب بما فيه الكفاية، انهم من الجيل الذي لعب دورا رئيسيا في عملية التغيير السياسي، وهو، ذلك الذي  ولد بين عامي 1941 و 1950. ان لدي انطباعا بأن جزء كبير من نجاح الفترة الانتقالية على وجه التحديد  يمكننا نسبتها إلى حقيقة أننا قد تركنا الماضي للخروج من الجدل السياسي. ولعل هذا يساعد في تفسير السبب في ان الشعب أقل ميلا إلى تعزيز سياسات إضافية للجبر، بغض النظر عن مستوى التعليم، أوحتى الأيديولوجية.
و في الختام ، فإن تقلبات النقاش و الجدل حول أهمية النسيان أو التذكر لأحداث بعينها تختلف تماما عندما نتحدث عن الفترات الإنتقالية . فيمكننا اعتبارها مزيج من استمرار الهوس من تذكر أهوالها مع كونها كالوسواس الذي ترغب في تجاهله وتجنب تكراره. الاستياء العام من النسيان، شائع جدا في الوقت الحاضر، وعادة ما نلقي باللوم على النخب السياسية كما تحبذ الغالبية العظمى من الشعب الاسباني. ولكن ما يكمن وراء هذا الرفض أيضا هو التحقق من الفراغات الموجودة فيما يتعلق بالتعويضات المادية و الرمزية لضحايا الجانب الجمهوري والدكتاتورية. وهناك العديد من الوفيات إلى تحتاج لتوضيح وتوثيق، و العديد من القبور التي لم  يتم إحياؤها، و رموز كثيرة من الماضي التي تديم التمييز ضد المهزوم، ولم تصدر حتى الآن أي حكومة ديمقراطية إسبانية بيان يشير إلى عدد العمليات القضائية الظالمة من الماضي.
فرانكو لم يتم حتى الآن أدانته بشكل صريح من قبل جميع القوى السياسية في البرلمان. والإفلات من العقاب الذي استفاد منه مرتكبي جرائم و انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الديكتاتورية تم تمديده أيضا طوال الفترة الانتقالية. ليس الموضوع متعلقا فقط بمسألة الشرطة لاستخدامها العنف ضد ممارسة الحقوق، ولكن أيضا من أهم المعالم وحشية الحكومة  في قمع المظاهرات الخاصة بمعارضة الدكتاتورية. عدد الوفيات التي نجمت عن قمع الشرطة في الفترة الانتقالية (1975.1982) يرقى إلى حد أدنى 140 شخص، لم يتلقى ايا من أقاربهم اي شكل من أشكال التعويضات الاقتصادية أو الأخلاقية حتى الآن.
 عندما يتم تنحية الماضي جانبا قبل فقد توضيح احداثه ومناقشتها والتعامل معها،فإن عاجلا أو آجلا سوف نجده يغزو الحياة السياسية للبلاد من جديد، مما سيضطر الحكومات لمواجهته، ولكن ليس دائما في افضل الظروف.
قواعد تقييد النقاش على وجه التحديد وجدت لأنه لا يوجد اتفاق على الماضي. ما تم الاتفاق عليه، على الأقل في الحالة الأسبانية هو ترك الماضي جانبا. هناك أوقات و من أجل عدم فضح التفسيرات التي لا يمكن الإتفاق عليها في الماضي، فمن المتفق عليه التوصل إلى توافق في الآراء الصريحة و تعميمها، ونجد هذا النوع في إسبانيا عندما تتردد عبارة: "كنا جميعا مذنبون عن الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية" دون الدخول في جدل حول من  الذي عمد على اشعال الحرب لإسقاط نظام شرعي، وبالتالي اطلق العنان للحرب الأهلية، و من الذي ارتكب المزيد من الجرائم، أو أي نوع العنف كان يستخدم من قبل أي من الجانبين.  و حتى بعد وفاة فرانكو لم يحب أحد احياء الماضي ، وليس فقط لأن ميزان القوى السياسية كان يعارض مهمة مراجعة الماضي ، ولكن أيضا لأن غالبية المجتمع تخاف  إحياء زمن الحرب و تأجيج العداوة من جديد. كانت هناك أولويات أكثر أهمية في ذلك الوقت، و قد استخدمت هذه الحجة مرارا وتكرارا من قبل الحكومات ، لتجنب تنفيذ تدابير العدالة الانتقالية.. المشكلة في حالة الإسبانية هو أنه في الوقت الذي اعتقد فيه الجميع خلال الفترة الانتقالية أنه من السابق لأوانه اعتماد بعض تدابير العدالة الانتقالية، يعتقد الكثيرون اليوم أنه قد فات أوان ذلك! المفارقة هي أنه، إذا كان صحيحا أن نقول أن أوقات التغيير السياسي هي غير مستقره للغاية و معقده جدا، و لكنها تبدو أيضا أوقات مثالية  لانتزاع اتفاقات بشأن المسائل الحساسة.  و عندما تستقر الديمقراطية  ، فإنه ليس  من السهل على القوى السياسية إعادة اكتشاف قوة الدفع اللازمة للعمل معا حول تدابير الجبر ، فقد يتحول الماضي إلى سلاح يفتك بالديمقراطية المستقرة.
الورقة  البحثية اعدتها: 
د.بالوما اغيلار ، كلية الإجتماع و العلوم السياسية ، الجامعة الوطنية للتعليم عن بعد، مدريد ، اسبانيا
و تقدمت بها في ورشة عمل في مؤتمر عن العدالة الإنتقالية بنورنبرج بناءا على دعوة من مبادرة إدارة الأزمات في يونيو 2007
اعد النسخة العربية:
م/سعيد عز الدين نصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق