Translate

الأحد، 10 نوفمبر 2013

متى سنبدأ المرحلة الإنتقالية؟؟؟؟

متى سنبدأ المرحلة الإنتقالية؟؟؟؟
هذا السؤال يؤرقني منذ فترة. فالممارسات الديمقراطية المستنزفة لطاقات الشعب المصري و المفرغة لطاقاته، من خلال الأعراس الديمقراطية الزائفة الخمس التي عاصرناها جميعا، بالتأكيد لم تحقق آمال و طموحات شعبنا العظيم.
فهل سنستمر في استخدام نفس الآليات، و ننتظر نتائج مختلفة؟؟؟ و هل من اصابهم الهم اليوم على ضياع اوقاتهم في الطوابير أمام صناديق الإقتراع، سيشاركون بنفس الحماس، في اي اقتراع قادم؟؟؟ بالتأكيد لا
و ما هو تعريف المراحل الإنتقالية في حياة الشعوب؟؟؟ وكيف يمكننا وضع حجر أساس البدء في المرحلة الإنتقالية في مصر؟؟
لقد هالني ما سمعت من الرئيس المعزول محمد مرسي، عندما قال :" لقد انتهينا من المرحلة الإنتقالية، و اجرينا انتخابات رئاسية، و خرج الشعب ضد رئيس الجمهورية، و لكن كان علينا الإنتظار لنعزله بانتخابات بعد أربع سنوات!!!".....
هالني ما قاله، لأنني لا ادري ما هو مفهوم مراحل الإنتقال عند الدكتور مرسي؟
ان اي مرحلة انتقالية في اي دولة مرت بما مررنا به من انتهاكات و قمع و اهمال و تجهيل ضد شعب كامل، سواء في عصر مبارك او من تبعه من شركاء له من المنتفعين ، تتطلب الكثير من الآليات التي لم اجد تطبيقا لأي منها الآن! لذلك لا اعتبر اننا بدأنا اصلا المرحلة الإنتقالية .
تؤسس المراحل الإنتقالية في حياة الشعوب على أكبر أرضية مشتركة ممكنة بين ابناء هذا الشعب. أرضية مشتركة من الأحزان و الآلام و الذكريات الجميلة في الماضي و المخاوف و الأحلام و الأهداف و الطموحات في المستقبل من ناحية أخرى.
بمعنى آخر ، نشترك جميعا في محورين: المحور الزمني الرابط بين الماضي الممتد من ميلاد كل منا، و حتى هلاكه، و المحور الشعوري الذي يمتد من الظلام و البكاء و الحزن، و حتى النور المتمثل في الضحك و الفرح بتحقيق الأهداف و الآمال و الطموحات.
تلك المحاور تناولها بالشرح تفصيلا في وقت سابق، الإمام و العالم الجليل/ محمد متولي الشعراوي عندما قال عن المحور الزمني:
الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته، فحياة الإنسان فيها حركة وحس وجري، ثم هناك حياة ثانية في الحيوان، وحياة ثالثة في النبات، وحياة ذات طابع مختلف في الجماد. مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط ليجذب برادة الحديد، حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة. وكلنا رأينا في المدارس الأنبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس. وتعتدل وتصير في مستوى واحد، وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى الأحجار تختلف فيها أشكال الحياة، فهناك حجر يأخذ شكل الرخام، وآخر المرمر، وكل لون من الأحجار له شكل من أشكال الحياة.
ونقرأ في القرآن: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
وجاء الحق بمقابل الهلاك وهو الحياة؛ فالهلاك ضد الحياة والحياة ضد الهلاك، ويقول سبحانه في آية أخرى(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) 
ثم تناول المحور الشعوري ايضا عندما قال:
كما قال الحق سبحانه و تعالى في سورة الأنعام:" و جعل الظلمات و النور".... فالظلمة أمر عدمي و سلبي، بينما النور أمر ايجابي، و النور يبدد الظلمة بشكل عام.
و لقد استوقفتني و أنا في طريقي للعمل صباحا آيات سورة النجم التي كان يتلوها الشيخ مصطفى اسماعيل في إذاعة القرآن الكريم بصوته الجميل: "(وأنه هو أضحك وأبكى ( 43 ) وأنه هو أمات وأحيا )( 44 ).
نعم لقد جاءت تلك الآيات العظيمة بوضوح لترسم لنا تلك المحاور.
من الناحية العلمية، تناولت العلوم السياسية تجارب شعوب شرق اوروبا و امريكا الجنوبية في التحولات الديمقراطية و مراحل الإنتقال بتحليل ادى إلى وضع أسس لآليات محددة للعمل، تناسب تلك المراحل. و قد تم تسمية تلك الآليات بمحاور "العدالة الإنتقالية".
تتلخص تلك المحاور في خمسة مراحل للتطبيق، كل محور منهم يتم تناوله في مرحلة ما ثم ننتقل بعدها لما يليه، و هي:
1-      لجان الحقيقة المحايدة و النزيهة و التي لا يتم تكوينها من خلال حزب أو سلطة بشكل منفرد، و انما هي لجان لا يطمح اعضاؤها لأي منصب او مكاسب من اي نوع. تبدأ تلك اللجان رحلة البحث عن الحقيقة و تحديد اماكن و اوقات الإنتهاكات و الجناة و الضحايا بدقة عن طريق جمع الأدلة و شهادات الشهود. و عندما يستقر ضمير كل لجنة على ما وجدت ، تشرع في كتابة تقريرها.
2-      تستخدم تقارير تلك اللجان في المحور الثاني المسمى "الملاحقة الجنائية" و الذي يشمل الإستناد للقانون القائم في الدولة إلى جانب تكوين محاكم خاصة للجرائم الغير منصوص عليها ، مثل تهمة مبارك الكبرى بإهمال و تجهيل شعب كامل و بشكل ممنهج.
3-      ايضا بناءا على تقارير لجان الحقيقة ، يتم جبر ضرر الضحايا سواء بالطرق المادية مثل التعويضات أو المعنوية مثل اطلاق اسامي الشهداء على الشوارع و الميادين، مثل ما فعل اصدقاء جابر جيكا ، فقد جمعوا توقيعات و نجحوا في تسمية شارع باسمه في النهاية تخليدا لذكراه.
4-      يأتي بعد ذلك اصعب المحاور و هو الإصلاح المؤسسي و الذي يشمل المؤسسات المعنية بالأساس بالإنتهاكات السابقة ، مثل الشرطة و القضاء و الإعلام و غيرها .
5-      إذا تحققت المحاور السابقة، نأتي لمحور انهاء عملية العدالة الإنتقالية بالوصول لمصالحة وطنية شاملة، تحقق السلم المجتمعي المستدام من جديد.
هنا نستطيع ان نقول اننا انهينا المرحلة الإنتقالية، و اهلا بغزوات الصناديق....لكن قبل ان يتم كل ما سبق، فنحن نحرث الماء. و يمكننا تلخيص ما نفعله بالإكتفاء بالإقتراعات المتتالية، بالمعادلات البسيطة الآتية:
إذا اردت تحقيق الهدف A باستخدام الطريقة B فحصلت على النتيجة C.....فانزعجت من تلك النتيجة و راجعت نفسك و حددت الهدف من جديد و هو A، ثم اعدت استخدام نفس الطريقة للوصول إليه B ، فإنك حتما ستصل من جديد ل C.
  و إذا جمعنا ما سبق من معادلات، سنكون حصلنا على 2C ، أو بمعنى آخر CC، و ستظل تحكمنا البدلة العسكرية.
أعلم تماما ان من حق الرجل الترشح للرئاسة كمواطن مصري، لكنني اشفق على وطني منا، فنحن لا نأخذ بالأسباب ، و ننتظر المعجزات....
فهل يعي الرئيس المؤقت ان عليه الإهتمام بالعدالة الإنتقالية قبل اي اقتراع هزلي؟؟؟ ام انه يشترك في تخديرنا من جديد بوزارة للعدالة الإنتقالية لا تفعل شيئا سوى التأكيد في المحافل الدولية على الإلتزام بخارطة طريق لا تحتوي على محور واحد من محاور تلك العدالة السابق ذكرها؟؟؟ 

بقلم: سعيد عز الدين

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

النظرية المتباينة للعدالة الإنتقالية

يمكننا تعريف العدالة الإنتقالية حديثا، بتعريفات أشمل على حسب كل حالة . التعميمات تتعلق بمعضلات التعامل مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وسبل تقدير وتقييم الممارسات المستخدمة عند مواجهة مثل هذه الموروثات من العنف والظلم. بالتأكيد، دون محاولة إجراء مقارنات عبر الحدود، فإننا تفوت فرصة للتعلم من تجارب الماضي، وبدون البحث عن أنماط في التحديات التي تواجهها العدالة الانتقالية في جميع أنحاء العالم، ستبقى العديد من الدروس الهامة دون أن يلاحظها أحد. ومع ذلك، في عالم متنوع، من الخطربناء نظرية عامة فقد تفتقر تلك النظرية إلى الحساسية للظروف المختلفة ودقتها.لذلك يمكننا رؤية العدالة الإنتقالية حسب التقسيم التالي:-


في بعض الأحيان يكون من الخطأ افتراض ان النظام الجديد سيكون بالفعل تحرري، مستندا إلى القوانين و الدساتير الكائنة. فقد اثبتت بعض التجارب في العدالة الإنتقالية ان القانون نفسه قد يعيق العملية برمتها. فجبر الضرر و التصالح و السلم المجتمعي و الإصلاح المؤسسي، كلها قيم ذات أهمية قصوى تتجاوز اي قانون أو نص دستوري لإتمام العملية بنجاح لعلاج اخطاء الماضي و ارساء القيم التحررية.
بصفة عامة ، ستجد دائما أن عملية العدالة الإنتقالية ستخدم اي مجتمع لتحقيق " مصالحه المشروعة" ، و هذا هو ببساطة القاسم المشترك في كل تفريعات تلك النظرية المذكورة عاليا. و في تلك الحالة سيتسع مفهومنا لكيفية الإستفادة من العدالة الإنتقالية في سياقات أخرى غير التحولات الديمقراطيى في التسعينيات، و سنخرج عن اي اطار معياري لها دون التقيد بتعريف أوحد أو نظرية واحدة. بل في النهاية سنجد ان محدد الآليات هي كما ذكرنا " المكتسبات" التي يتوافق عليها المجتمع و التي يحرص على الخروج بها من تلك الرحلة الإجراءية.
1- العدالة الإنتقالية بعد التحولات السياسية:
عند حدوث تحول سياسي جذري و عندما يسعى النظام الديمقراطي الراشد لتطبيق العدالة الإنتقالية لعلاج انتهاكات النظام السابق، فهذه هي الحالة المثالية لتطبيق علم العدالة الإنتقالية ، و هذا ما يمكننا تسميته "التحول التحرري". و لكن قد يحدث تغير لنظام قمعي و غير ديمقراطي، و لكن بنظام آخر قمعي و غير ديمقراطي!! و هذا ما سنتناوله تحت مسمى "التحول الغير تحرري".
1-1       العدالة الإنتقالية في ظل تحولات تحررية:
في مثل تلك الحالات ترتكن عملية العدالة الإنتقالية على طبيعة هذا التحول. فالنظام التحرري ، لا شيء يحول بينه و بين التطبيق الكامل لكل آليات العملية. من أمثلة تلك الحالات: تحولات جنوب اوروبا في منتصف السبعينيات، و بعض دول امريكا اللاتينية في الثمانينيات، في وسط و شرق اوروبا بعد سقوط النظم الشيوعية، و جنوب افريقيا عام 1994. و إذا ما وسعنا المفهوم ليشمل قوات الإحتلال على اعتبار انها بمثابة "النظام السابق"، يمكننا ضم العديد من الدول الأوروبية بعد الإحتلال الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. و بينما تختلف درجات النجاح في تلك الحالات في توطيد الديمقراطية و دولة القانون، يشترك الجميع، في الرغبة الحقيقية و الأمل في الوصول لذلك.
و في اغلب تلك الحالات، تلك الرغبة الحقيقية في تطبيق العدالة الإنتقالية من قبل النظم الديمقراطية ،كان محددها الأساسي الحفاظ على ثبات الحكم و استقراره. و من ضمن ما قد يحفز قيادات النظم الديمقراطية الجديدة لتطبيق العملية بشكل كامل، حالة الإستياء الشعبي الواسعة من النظم السابقة، و التعاطف مع الضحايا و الذين قد يشملوا تلك القيادات ذاتها! إلى جانب ان تلك الممارسة الديمقراطية ، ستعزز من موقف الأنظمة الجديدة و تضفي شرعية حقيقية على مؤسساتها. و من ضمن الممارسات الديمقراطية المتباينة بهذا الصدد و ان اتفقتا في التوافق الشعبي في كلتا الحالتين، الفرق الواضح بين حالة الأرجنتين من حيث التعامل مع جرائم الماضي و حالة اسبانيا بعد فرانكو، فالحالة الأولى دفع الشعب الحكومة فيها لمراجعة جرائم الماضي، بينما منع الشعب في الحالة الثانية الحكومة من القيام بذلك.
فقد تختلف طبيعة القمع و العنف الذي ارتكبه كل نظام سابق في كل حالة، و قد يختلف مدى استمرار قادة النظام السابق في التأثير على العملية الديمقراطية عن طريق نفوذ أو قبليات أو غيرها، من عدمه، كما ان النظام الديمقراطي الجديد قد تتفاوت درجات التزامه بقواعد الديمقراطية و القانون من حالة للأخرى.
و من الحالات الجديرة بالذكر في هذا النوع أو الفرع من تطبيقات العدالة الإنتقالية في ظل النظم التحررية، حالات الإشراف الخارجي على تطبيق العملية. و احد الأمثلة في تلك الحالات ، ما قام به الحلفاء عند تعاملهم مع قادة النظام النازي بعد الحرب العالمية الثانية. فقد تم تقديمهم للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية الدولية بالتنسيق مابين كل من أمريكا و بريطانيا و روسيا و فرنسا. و هذا التوافق بمنظور اشمل، نستطيع القول انه ما بين من كانوا يريدون الإنتقام من هؤلاء عن طريق الإعدام بإجراءات موجزة، و بين من اظهروا تحفظات خاصة بضرورة تقليص أي حافز الماني لبدء حرب أعنف، بفرض ان المحاكمات ستوضح للشعب الألماني حقيقة وحشية و بشاعة النازية. تلك التحفظات التي احاطت جرائم النازي، تشبه إلى حد كبير التحفظات التي واجهت "الموجة الثالثة لدول التحول الديمقراطي" ( في جنوب اوروبا و امريكا اللاتينية في السبعينيات إلى 1990). فقد ظهر الدور التوعوي للمحاكمات جليا في الأرجنتين في الثمانينيات بالنسبة للشعب. و من الإختلافات الواضحة بين الحالتين ايضا، هو ان تطبيق العدالة بأثر رجعي في الحالة الأولى كان غير محدود ، أما في الحالة الثانية، فقد كان محدودا بشرط دعم عمليات التحول الديمقراطي الحقيقي.
قد يتناول البعض مثال أخر للتأثير الخارجي لدعم عملية العدالة الإنتقالية عند التطرق للقضية العراقية، و لكننا هنا نختلف معهم، فقد ظهر جليا ان هذه حالة احتلال عسكري و تنصيب لحكومة موالية و ان كاننت منتخبة "بدعم امريكي" ، لانتفاع الإمبراطورية الأمريكية بنفط العراق، و لكن استغلت نظرية العدالة الإنتقالية للتسويق الشعبي لقبول تلك الحكومة.
و قد تعاملت تلك الحكومة مع جرائم النظام البعثي، بينما لم تتناول جرائم قوات الإحتلال الأمريكي نفسها!
و خلاصة القول، أننا بالفعل تعلمنا آليات العدالة الإنتقالية من التحولات التحررية، و التي قد تلجأ بعضها لتقليص النظر بأثر رجعي للانتهاكات في سبيل تحقيق التحول الحقيقي، كما ان بعضها قد تتبناه قوى داخلية و الأخر يأتي مدعوما بقوى خارجية.
1-2       العدالة الإنتقالية في التحولات الغير تحررية:
في تلك الحالات يستنكر النظام الجديد كل ما قام به النظام القديم من انتهاكات.... و لكن لا يمنعه هذا من القيام ببعضها. فقد يكون نظاما غير ديمقراطيا، أو ينتهك حقوق المواطنين من أجل تثبيت الحكم أو بحجة الحفاظ على الأمن أو أي أسباب أخرى.
و لعل من أهم الأمثلة لهذا النوع من تطبيقات العدالة الإنتقالية هي الحالة الرواندية. فبعض المحللين يشبهون النظام الرواندي الحالي بالنظام السابق و الذي ارتكب جريمة إبادة جماعية عام 1994.
فممارسات الجبهة الوطنية الرواندية، التي وصلت للحكم بعد عملية الإبادة الجماعية عام 1994، لم تختلف كثيرا عن سابقتها. فهي توحي بنظام الحزب الواحد من عدة جوانب، فدائرة حكم صغيرة من قادة الحركة هم من يتخذون القرارات، بينما يبقى مجلس الوزراء ليمارس المهام الروتينية لإدارة الدولة. فبينما راكمت الهابياريمانا الثروات و الإمتيازات ، فقد سار على نهجهم الكاجامي ، فقد تناول كل منهم التوتسي بشكل عرقي في الحالة الأولى بينما تم تناول الهوتو بنفس الشكل اعتمادا على فقدان الذاكرة العرقية  لتقديمهم ككبش فداء في الحالة الثانية. فقد استخدم العنف بشكل موسع لقمع المعارضين في الحالتين، مع الحرص على الإفلات من العقاب بشكل ممنهج، و هذه من أوضح عوامل استمرار النظام القمعي تحت مسمى أخر. و لكن يجب ان نضع في الحسبان، ان عملية الحد من و التعدي على الحقوق في الحالة الأولى ادت إلى ابادة جماعية، بينما في الحالة الثانية جاء هذا الحد و هذا التعدي بعد عملية ابادة قام بها فلاحين و مواطنين مدنيين.
من ضمن سمات نظام الجبهة الوطنية الرواندية ايضا التي دعتنا لتصنيفه غير تحرري، تأجيله للإنتخابات سنوات عديدة بحجة عدم نضج الشعب بالقدر الكافي لتمكينه من اختيار قادته. و في 2003 بعد انتخاب تلك الجبهة، تلاحظت بعض العيوب في العملية الإنتخابية نفسها. فقد تم حل الحزب الرئيسي المعارض قبيل الإنتخابات، و قدمت الجبهة نفسها بشكل جيد في الإنتخابات، مع مراعاة ارهاب و تهديد ما تبقى من المعارضة، فلم يتبقى امام الشعب إلا اختيارهم. و خاصة بعد توجيههم لتهم مثل "دعوات التقسيم" و "تبني فكر يدعم الإبادة الجماعية" لأي خصم لهم قد يعلو صوته.
و ما يزال الكثير من قيادات الجبهة، يعتبرون ان الشعب الرواندي غير مؤهل للنظم التعددية، و ان هناك ضرورة لوضع قيود على حريات الروانديين و خصوصا حرية نقد النظام، لضمان إستقرار الدولة.
مثال آخر، نجده واضحا في نيكاراجوا، بعد تحقيق نصر عسكري للساندينيستا على ديكتاتورية السوموزا في عام 1979 فيما عرف بالثورة. فقد تبع ذلك اعدام ما يقرب من 5000 من أنصار السوموزا عن طريق محاكمات شعبية لا يحمل قضاتها أي مؤهلات قانونية! و في ظل الحكم اليساري الذي جاء في اعقاب ديكتاتورية يمينية، فقد حدث تحسن طفيف فيما يخص حقوق الإنسان. و برغم دعم قطاعات كبيرة من الشعب للساندينيستا، إلا انهم لم يتم تفويضهم للحكم بشكل ديمقراطي إلا في عام 1984. و بالإضافة إلى ذلك، فقد تم اعلان حالة الطواريء من 1982و حتى 1988 بسبب تمرد الكونتراس الممول أمريكيا، و قد اتسمت تلك الفترة بالتضييق على بعض الحريات مثل الإجتماع و الرأي و التعبير و حتى المثول أمام القضاء.و قد قل تناول حالة نيكاراجوا فيما يخص علم العدالة الإنتقالية بسبب حيودها النسبي عن آليات تصفية حساب النظام الجديد مع القديم.
مثال ثالث نجده واضحا في اوزباكستان ، ففي عام 1999، اسس الرئيس الأوزباكي اسلام كريموف لجنة حقيقة في بلاده.و برغم علاقة كريموف بالحزب الشيوعي الأوزباكي، إلا ان لجنة تعزيز ذكرى الضحايا تم تكليفها  بالبحث في حالات القمع التي ارتكبت في ظل حكم الإتحاد السوفييتي، تلك الحقبة التي تسببت في المصائب التي حلت باوزباكستان حاليا. و برغم انتخاب هذا النظام فنيا، فيمكننا القول انه نظام غير ديمقراطي. فبرغم وعد كريموف بالتحسن المستمر في الأوضاع خطوة بعد خطوة، إلا  انتهاكات حقوق الإنسان و القمع الحكومي استمر و ظهر جليا في المذابح التي ارتكبت ضد المتظاهرين في انديجان في 2005 .
في هاييتي ، و بعد عودته من المنفى في 1994، بعد ثلاثة سنوات من الحكم القمعي للجنرال راؤول سدراس،حكم البلاد الرئيس جان برتراند اريستيد. وقد انشأ هذا الرجل وحدة تحقيق خاصة للنظر في ملفات العنف السياسي الذي مورس في عهد و قبل حكم راؤول سدراس، و لكن للأسف لم تنجح تلك اللجنة في تقديم قضايا كثيرة للمحاكم.
و كذلك تم تأسيس لجنة حقيقة خاصة بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان اثناء الحكم العسكري و لكنها ايضا لم تنجح بشكل كبير في مهمتها.
اريستيد كانت له ولاية ديمقراطية، و قد تراجعت رعاية الدولة للعنف على الأقل في بعض الأوقات و قد احدث بالفعل بعض الإصلاحات. لكنه من ناحية أخرى تبنى اجراءات قضائية غوغائية لملاحقة معارضيه السياسيين. كما انه استغل عصابات العنف كوسيلة للسيطرة على المجتمع، بالتوازي مع الشرطة التي كونها لتحل محل سيطرة الجيش على الأمن الداخلي و و التي تورطت في الإنتهاكات الموسعة والممنهجة لحقوق الإنسان.
مثال اخر في اوغندا، بعد استيلاء يوري موسيفيني على الحكم عام 1986، تم تأسيس لجنة حقيقة للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان في ظل النظم السابقة. و قد كان بالفعل نظام يوري اقل عنفا من نظامي عايدي أمين أو ميلتون ابواتيه، و لكن هذا لا يمنع ان الأحزاب الأخرى لم تعمل بحرية قبل عام 2000.
لقد كان و ما يزال هناك بعض التضييق في الحقوق المدنية و السياسية، و لكن ارتكب نظام موسيفيني انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان عندما حارب ما يسمى (جيش الرب للمقاومة) في شمال البلاد.
في اثيوبيا، المحاكمات الجنائية،تبعت الإطاحة بالنظام الوحشي لمنجيتسو عام 1991، في ظل نظام شبه سلطوي.
و في تشاد، تم تكوين لجنة حقيقة عن طريق الرئيس ادريس ديبي، بعد الإطاحة بنظام حسين حبري عام 1990، و لكنها عملت في سياق الحكم الشمولي لحزب الخلاص الوطني، و في ظل نظام حكم ارتكب العنف الممنهج و انتهاكات حقوق الإنسان ضد معارضيه.
و في نيجيريا عام 1999، تكونت لجنة حقيقة عن طريق الرئيس اوليسيجون اوباسانجو و الذي حكم البلاد حكما ديكتاتوريا من عام 1976 و حتى 1979، و حتى بعد انتخابه بشكل ديمقراطي، فقد ارتكب نظامه العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، فقد ايد نظامه الممارسات الوحشية للجيش في دلتا النيجر على سبيل المثال.
و نتيجة الإختلافات الواسعة بين كيفية تطبيق العدالة الإنتقالية في النظم الغير تحررية، فلا يمكننا الخروج بصورة عامة لتلك الحالات. و لكن هناك بعض النقاط الهامة التي ستحسم فهمنا للتحديات التي تواجه تطبيق العدالة الإنتقالية قد نخرج بها من تلك التجارب.
فمن الفرضيات المعقولة اعتبار النظم التحررية بشكل نسبي ، قد تستخدم آليات العدالة الإنتقالية لتأصيل الديمقراطية، و تعزيز حكم القانون، و فتح الملفات المحظورة سابقا، بينما لن تولي النظم الغير تحررية نسبيا نفس الأهمية أو الأولوية لتلك الموضوعات لتجنب نفس الأسباب السابقة. فغرضها من تطبيق تلك الآليات، سيكون ببساطة التضييق على الحريات و ترسيخ حكم قمعي و غير ديمقراطي.
فعندما ننظر مرة أخرى للحالة الرواندية، و تأجيل الإنتخابات حتى 2003، كان ذلك في سياق نشر الوعي المدني و السياسي بين الروانديين، و الذي استغلته الجبهة الوطنية الرواندية لتعميم فكرها و تهميش اي فكر آخر بدعوى محاربة التقسيم المجتمعي، و كان ذلك عن طريق ما يسمى ب"محادثات السبت" و التي اوصت بتكوين ما يسمى ب "معسكرات التضامن" و التي سميت فيما بعد ب " معسكرات اينجاندو" لخدمة تلك الأغراض.و قد كان لتلك الممارسات دورا كبيرا في حماية اعضاء الجبهة الوطنية الرواندية من الحساب على الإنتهاكات التي ارتكبوها سابقا، و تصوير عملية وثوب الجبهة للسلطة و الإستيلاء عليها في صورة ما يطلق عليه "الخلاص الوطني".
بالمثل فقد كان هدف لجنة الحقيقة في تشاد، خدمة السلطة الجديدة و تلميعها على حساب السلطة السابقة.
أما في الحالة الأوزباكية، فمثلما ساعدت شدة النظام السابق و قمعه، في سهولة انتقال السلطة لكريموف، فقد ساعده ذلك بالظهور بالمظهر اللائق و هو يحاول تطبيق العدالة لإنتقالية في ظل مؤسسات دولة موروثة من النظام السوفيتي و حقوق انسان ضيقة لأقصى درجة .
هناك آثار فورية تظهر لنا نتيجة تأملنا في تلك النوعية من تطبيقات العدالة الإنتقالية لخدمة النظام و الحد من القيم التحررية. أولا: هناك حاجة لفحص دقيق و صارم للنوايا التي تأتي خلف تأسيس تلك العملية، و تغيير الادراك العلمي العام ان تلك العملية الهدف منها فقط تحرير الشعوب و تأصيل الديمقراطية.
ثانيا: على كل من يحاول الإستثمار في تلك العملية و دعمها، التوقف للحظات للتحقق من الأهداف من وراءها . فمن الممكن ان يكون هدف الحكومات من وراء الترويج بتطبيقهم لتلك الآليات، التسويق الدولي للإعتراف بهم و جني القروض و المنح. ولكن في بعض الأحيان، يكون الدعم الدولي مفيدا في التأسيس لدولة قانون جديدة، فقد تجبر المبادرات الدولية الحكومات على الإنصياع لتطبيق حقيقي لإحدى اطر العدالة الإنتقالية، مثل تأسيس "مجموعة المدافعين عن السلك القضائي" في رواندا و هم مساعدون قانونيون تم تدريبهم تدريبا محدودا للمساعدة في الدعم القانوني لحالات الإبادة الجماعية مثلا. فقد سهلت تلك المجموعة على المواطنين كيفية اللجوء للقضاء و ساهمت في نشر الوعي القانوني بينهم.
من ضمن الإشكاليات الأساسية في حالات تلك الدول ان مفاهيم التعددية و الديمقراطية و حقوق الإنسان قد تتعارض مع عملية بناء الدولة و نشر الأمن و السلم المجتمعي في مراحل معينة، و بدعم شعبي! ففي رواندا كانت عمليات الإبادة ممنهجة من قبل متطرفين و بعد تحول عام 1994 ، كان هناك استغلال للمنابر الإعلامية من قبل هؤلاء لنشر فكرهم المتطرف.
في النهاية، سنتفق انه ليس هناك طريقة مثلى للتعامل مع مثل هذه التناقضات، و لكننا يجب ان نضع ثلاث قضايا في الحسبان عند محاولتنا للوصول لتوازنات معينة:
أولا: لابد من تحديد نوعية المظالم التي وقعت في الماضي و التي يمكن التعامل معها فالإختلاف كبير من حالة لأخرى. فطبيعة العنف و الظلم و هل كان على أساس عرقي ام قامت به سلطة تجاه شعب أم مجموعات من الشعب اشتركت فيه ، كل هذه الأسئلة تحتاج اجابات.
ثانيا: يجب ان نولي اهتمام بما يحدث حاليا ، ففي الحالات التي يستمر فيها العنف الجماعي  و عدم الإستقرار و نحن نحاول تطبيق آليات العدالة الإنتقالية ، فيمكننا تبريران تكون الأولوية للأمن و السلام على حساب القيم التحررية الأخرى.
ففي حالات مثل نيكاراجوا و هاييتي و عند نقطة معينة رواندا، نرى جليا ان تطبيق العدالة الإنتقالية اتى في خضم صراع مسلح بين السلطة الجديدة و النظام القديم أو جماعات مسلحة أخرى.و لكن يجب ان لا نغفل انه قد تكون احد اسباب هذه الصراعات غياب الديمقراطية أو تلك القيم التحررية التي تم تأجيل النظر فيها لإعطاء الأولوية للأمن.
ثالثا: يجب ان نضع في الحسبان معدلات الفقر و الجهل و مستوى التعليم و ما إذا كانت مؤسسات الدولة المختلفة تعمل بشكل جيد أم لا. فمن الملاحظات الهامة جدا، ان اغلب الدول التي اندرجت تحت مسمى الحالات التحررية ، مستوى الدخل بها و التعليم و كفاءة مؤسسات الدولة أفضل من مثيلاتها في الحالات الغير تحررية.
2- العدالة الإنتقالية في ظل عدم وجود تحولات سياسية:
ينظر للعدالة الإنتقالية في تلك الحالة كنهج مؤسسي للتعامل مع كم هائل من انتهاكات حقوق الإنسان في نطاق واسع من البلدان التي لا نستطيع القول بأنها تمر بمرحلة انتقالية سياسية، على الأقل بمعناها المفهوم بالتغير الجذري للنظام. وفي تلك الحالة نجد انفسنا أما خيارين، إما مجتمعات متصارعة و هشة، و إما  ديمقراطيات مستقرة و سلمية.
2-1 العدالة الإنتقالية في المجتمعات المتصارعة و الهشة:
عندما نشأ هذا العلم و تكون في الثمانينيات و التسعينيات، كان من خلال تجارب شعوب مرت بتحولات فعلية و انتقال من نظام لنظام. لكننا حين نطبق آليات العدالة الإنتقالية  مثل لجان الحقيقة و الملاحقات القضائية و غيرها من الآليات على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان في مجتمعات متصارعة و هشة، فالحالة مختلفة و ان كانت امكانية التطبيق ما تزال قائمة.و بناءا على ذلك نجد أنفسنا أمام حالتين في هذا النوع من التطبيق، الحالة الأولى عندما تكون حكومة تلك البلاد مرحبة بتطبيق تدابير العدالة الإنتقالية ، و الحالة الثانية عندما نجد تلك الحكومات تتخذ تدابير من شأنها عرقلة العملية و تأجيلها لمستويات أخرى من الصراع أو النزاع.
في كينيا بعد أحداث العنف التي اعقبت انتخابات 2007-2008 ، تم استخدام آليات العدالة الإنتقالية لعلاج تلك الظاهرة مع مراعاة السياق السياسي على أرض الواقع. و كان القرار هو الشروع في مسار من المواجهة المحلية لموروثات العنف السياسي من خلال المساءلة ، و الحقيقة، و الإصلاح من خلال ما يسمى (المصالحة والحوار الوطني الكيني) و الذي كان يهدف في المقام الأول للوصول لتسوية فيما يخص الأزمة التي نجمت عن أحداث العنف التي تبعت الإنتخابات.
هذا الحوار تبناه فريق من الشخصيات البارزة في الإتحاد الأفريقي برأسة، الأمين السابق للأمم المتحدة كوفي عنان و قد تمت متابعته عن كثب من قبل المجتمع الدولي. الأطراف الرئيسية في النزاع بشأن نتائج الانتخابات التي كانت هي شرارة العنف السياسي (حزب الوحدة الوطنية، برئاسة الرئيس الحالي مواي كيباكي، والحركة الديمقراطية البرتقالية، برئاسة رايلا أودينغا) ادركوا أن هدفهم النهائي كان تحقيق "السلام المستدام والاستقرار والعدالة في كينيا من خلال سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان." التسوية السياسية أسفرت عن تنصيب حكومة ائتلاف موسعة حيث تمكن من خلالها كلا الطرفين في النزاع من الحصول على نفوذ سياسي، وهو الإجراء الذي انهى العنف السياسي واسع النطاق في البلاد. و في تلك الحالة ، كان اللجوء لأحد الحلول المبنية على مفهوم العدالة الإنتقالية مستخدما داخل هذا الإطار من السعي لحل أزمة سياسية وطنية. و قد شمل الإتفاق بين الأحزاب اتخاذ التدابير المناسبة للتعامل مع موروثات العنف السياسي لضمان المساءلة القضائية عن الجرائم و تم تأسيس "لجنة للحقيقة و العدالة و التصالح"  و البدء في عملية عميقة من الإصلاحات الدستورية و المؤسسية مثل الشرطة و القضاء. و اصلاح بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء النزاع، مثل الفقر و التوزيع الغير عادل للأراضي. من العجيب هنا، أن من قام بتلك الإصلاحات هو بالأساس نفس الفريق الذي تسبب في موجة العنف التي تلت الإنتخابات من القيادات الحزبية للطرفين.و ان بعض السياسيين يظنون انهم سينتفعون من الحفاظ على الوضع الراهن من الحكم. وأنه خلافا للتصورات السائدة، فالعنف على نطاق واسع في كينيا قد احاط النشاط السياسي الأكثر أهمية في هذا البلد منذ الاستقلال. ونظرا لهذا، فإنه ليس من المستغرب أن يظهر بعض أصحاب المصلحة الرئيسيين في مجال العدالة الانتقالية الكينية موقفا ملتبسا تجاه المدى الذي ينبغي على هذه العمليات  الخوض فيه لمواجهة حقيقية لأسباب العنف السياسي، و المشتمل على عملية المساءلة لمرتكبيه و التحقيق معهم .كما اظهر الكثير من السياسيين ترددا في اجراء عمليات الإصلاح القانوني و المؤسسي التي اتفق عليها مسبقا. و بالمثل فقد قوبلت الطموحات لملاحقة جناة العنف السياسي في المحاكم الكينية، بالرفض من قبل البرلمان في عام 2009 عندما صوت برفض مشروع القانون الخاص بذلك الموضوع. و بناءا على ماسبق فقد اظهر بعض نواب البرلمان تخوفاتهم من امكانية تحقيق العدالة، كما زعم البعض ان الملاحقة الجنائية قد تتعارض مع جهود المصالحة الوطنية بين المجموعات و الأفراد. و عندما نضع كل ما سبق في الحسبان ، سنجد ان مثل تلك الحالات تختلف كليا عن مساءلة قيادات نظام سابق لم يعد له مكان في الحكم.
و لكن لكي نفهم العدالة الإنتقالية في الحالة الكينية يجب ان ننظر لما وراء مصالح القيادات السياسية المحلية. أولا، أطراف النزاع لم يكونوا فقط تحت ضغط محلي و دولي لإنهاء الصراع، ولكنهم كانوا تحت ضغط من نوع اخر، يتطلب تعويض الضحايا و تحقيق المصالحة الوطنية و ضمان المساءلة و اصلاح المؤسسات و هياكل الدولة التي اشار المراقبون انها من اهم اسباب الصراع.ثانيا، فقد كان هناك تفاعلا بين العدالة الدولية و العدالة الوطنية في كينيا مما يستوجب الإنتباه لذلك. فلجنة واكي التي كونتها الأحزاب قد اكتسبت سلطة التحقيق في احداث العنف و تقديم التوصيات المناسبة للتعامل معها. فقد اظهر تقرير اللجنة ان احد الأسباب الرئيسية للعنف السياسي ، هو التاريخ الممتد لعقود من الإفلات من العقوبة، و بناءا على ذلك كانت التوصية بتأسيس محاكم خاصة من القضاة المحليين و الدوليين للنظر في أحداث عنف ما بعد الإنتخابات. و قد طالبت لجنة واكي الأحزاب بالوصول لإتفاق بشأن تأسيس تلك المحاكم و تقديم مشروع قانون ينظم عملها للبرلمان.و قد وضعت اللجنة سقفا زمنيا للأحزاب مقداره 60 يوما، هددت بعدها بتقديم قائمة بأسماء لامعة في المجتمع الكيني مما قد تثبت ادانتهم في احداث العنف للمحكمة الجنائية الدولية. و بالفعل تقاعصت الأحزاب، فقدم كوفي عنان تلك القائمة للمحكمة الجنائية الدولية في يوليو 2009. و في ديسمبر 2010 كشف النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية عن 6 من المشتبه فيهم في التسبب في احداث العنف من ضمنهم رئيس الشرطة السابق و رئيس الخدمة المدنية و ثلاثة ممن كانوا يريدون الترشح للرئاسة في 2012، مما اصاب المناخ السياسي الكيني باضطرابات. فقد ضغط البرلمان على السلطة التنفيذية للإنسحاب من نظام روما الأساسي، و ممارسة الضغوط الديبوماسية على مجلس الأمن لتأجيل النظر في الحالات الكينية على حساب الاهتمام بإصلاح القضاء.
الحالة الكينية تبرز لنا مفهوم تطبيق العدالة الإنتقالية عندما لا يكون هناك تغيير عميق في النظام، أو عندما نكون في حالة من الإنتقال، تختلف عن التحول للديمقراطية ، مما يدفعنا للتأمل في أطراف العملية و أهداف كل منهم. من يمكننا اشراكه في العملية، هو أمر متروك لكل شعب لتحديده، فالنطاق واسع على المستويين المحلي و الدولي. فمن الجمعيات الأهلية و منظمات المجتمع المدني و العناصر المتزنة من السلطة، مرورا بالمنظمات الدولية مثل المركز الدولي للعدالة الإنتقالية و منظمات حقوق الإنسان مثل منظمة العفو الدولية و داعمي السلام في العالم إلى وكالات الأمم المتحدة و حتى الوصول للمحكمة الجنائية الدولية، كل الأطراف متاحة. في اغلب الأحوال في مثل حالة كينيا، نجد من يعارض العملية، ما يزال في السلطة، أو على الأقل ذو تأثير مجتمعي.
في كولومبيا، بدأت عملية تطبيق العدالة الإنتقالية في 2005 و اثارت جدلا واسعا حول جدواها. فالبعض يراها محاولة معيبة لنزع السلاح من التنظيمات الشبه عسكرية بعيدا عن اي اصلاح ديمقراطي، بينما يراها البعض الأخر كمحاولة لتطبيق نموذج العدالة الإنتقالية في عملية نزع السلاح ، و تسريح القوات، و اعادة ادماجهم في المجتمع، مما يعطي الأمل في الوصول للإصلاح و الحقيقة و المساءلة بعيدا عن السياقات الأمنية التي افتقرت سابقا للعدالة و التصالح. كان الجدل في 2005 ينصب على مشروع قانون السلام و العدالة، و قد سن هذا القانون استكمالا لقانون تسريح المقاتلين.و قد أسست بموجب هذا القانون لجنة للمصالحة و الإصلاح الوطني، و خصص ميزانية للاصلاح الوطني. و كان للنقد الحاد من منظمات المجتمع الدولي و المراقبين الدوليين للعفو الحكومي الشامل، دورا كبيرا في تسهيل مثول المجرمين أمام العدالة الجنائية بسبب انتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان، و لكنهم لم يحصلوا في النهاية إلا على أحكام مخففة.
قد يرى البعض ان شروع اصحاب القرار في مشروع العدالة الإنتقالية و العمل على تعويض الضحايا و محاسبة الجناة، قد يكون هامشيا بالنسبة للإصلاحات الجذرية لمؤسسات الدولة و ذهبوا إلى امكانية ان تكون الدولة تراوغ من خلال تلك العملية لتجنب هذه الإصلاحات العميقة. لذلك كان للنائب العام للمحكمة الجنائية الدولية دورا هاما في الرقابة على تلك العملية و خصوصا من ناحية تحفيز المطالبات المحلية بضرورة تفعيل المساءلة.
اللجنة الوطنية للاصلاح و المصالحة تعمل بجدية، و قد حققت بالفعل في حاالات من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، و نجحت في تسريح اكثر من 30000 مقاتل . و على الرغم من معاقبة القليل فقط من هؤلاء على الجرائم التي ارتكبوها، إلا انهم قدموا معلومات للمحققين ساعدت على التحقيق مع العديد من اعضاء البرلمان و رجال الدولة. و لازالت الإتهامات تلاحق اعضاء الإدارة الأوريبية بالحفاظ على علاقات مع تنظيمات شبه عسكرية. كما تم انتقاد تلك الإدارة بسبب فشلها في اتخاذ التدابير التي يمكن ان تكفل اصلاحات عميقة لملف الحوكمة و الذي من شأنه انهاء حالة العجز الديمقراطي، و تسهيل وضع نهاية للحرب الأهلية مع ميليشيات اليسار (فارك و غيرها).
في اوغندا تناولت عملية العدالة الإنتقالية عمليات العنف اثناء الصراع في شمال البلاد، و هو مثال مهم لتوضيح كيف يمكن جدل المصالح المختلفة في ضفيرة واحدة.
يرى بعض المراقبون ان تحويل الرئيس موسيفيني لجرائم ( جيش الرب للمقاومة) للمحكمة الجنائية الدولية في 2003، تعد احد اسلحته في قمع النشاطات الثورية النشطة في بلاده. و بقدر احتفال الشعب و المعلقين بصدور اوامر اعتقال من تلك المحكمة في 2005 في حق قادة جيش الرب للمقاومة، بقدر ما تم انتقادها لعدم تناولها من قريب أو بعيد ملفات وحشية الجيش الرواندي نفسه، فيما عد عملية عدالة انتقائية.
قرارات المحكمة الجنائية الدولية من ناحية اخرى اضطرت قادة جيش الرب للانصياع لاتفاق جوبا مع موسيفيني والذي شمل اليات تعويض و جبر ضرر للضحايا، إلى جانب اعادة محاكمة قادة جيش الرب المتهمين أمام محاكم خاصة، بعد ان توصت موسيفيني لدى المحكمة الدولية للسماح لهم باجراء ذلك من أجل المصالحة الوطنية و لإسقاط التهم عن قادة جيش الرب لتمكينهم من الجلوس على مائدة التفاوض.و مع ذلك فقد فشل بعض قادة جيش الرب مثل جوزيف كوني في التوقيع على اتفاقية السلام و استمرت اعمال جيش الرب الوحشية في الكونغو الديمقراطية و افريقيا الوسطى و السودان مما جعل من استمرارية سريان امر اعتقاله من قبل المحكمة الدولية ، امرا طبيعيا.
ما تم جدله من مصالح هنا في الحالة الأوغندية، هي قدرة السلطة على التحكم في الصراعات من ناحية، و جبر ضرر الضحايا من ناحية أخرى، و تحفيز المبادرات المحلية و تفعيل آليات العدالة المحلية و المصالحة الوطنية من خلال الضغط الدولي.
بصفة عامة، فبعض المراقبين يرى ان السعي وراء المساءلة هي الطريقة المضمونة لوقف الإنتهاكات، بينما يرى البعض ان المساءلة و الإصرار عليها في بعض الحالات قد تهدد جهود تحقيق السلم المجتمعي و المصالحة الوطنية، مما قد يسبب وقوع المزيد من الإنتهاكات.
في السودان ، و لعقود عديدة اعتاد الشعب على فرار المجرمين من المساءلة نتيجة قصور واضح في النظام القضائي. و لكن نتيجة جهود محلية و دولية، تكونت محكمة خاصة في 2005 للنظر في انتهاكات دارفور، و لكنها لم تنظر إلا عدد بسيط من القضايا، لانتهاكات بسيطة و محدودة و المتهم بالقيام بها ليسوا من المتورطين الكبار!  و قد بدأت امحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في انتهاكات دارفور ايضا في 2005. و بالفعل في مايو 2007 اصدرت المحكمة اوامر اعتقال في حق وزير الداخلية السابقو الذي يشغل حاليا منصب وزير الشئون الإنسانية، و الأخر قيادي في ميليشيات الجنجويد. و في 4 مارس 2009 اصدرت المحكمة الجنائية الدولية امر اعتقال في حق الرئيس السوداني الحالي عمر البشير. قرارات المحكمة من ناحية تساعد على تشجيع المساءلة الوطنية و المحلية، و لكنها من وجهة نظر البعض قد تهدد عملية السلام في السودان، و قد تساهم في الضغط على البشير و رجاله للإسراع بانهاء الإتفاقات التي من شأنها انهاء الصراع. و لكن عدم تنفيذ اوامر الإعتقال من وجهة نظر ثالثة ، قد تهدد مصداقية و شرعية المحكمة على الصعيد الدولي، فالبعض يرى من وراء تلك المحكمة محاولات لإحياء امبرياليات جديدة!
2-2 العدالة الإنتقالية في الديمقراطيات المستقرة:
العدالة الإنتقالية في الديمقراطيات المستقرة، كعملية، لم تساهم كثيرا في اعادة صياغة نظريات تعريف العدالة الإنتقالية. ولكن من ناحية اخرى فظاهرة استخدام الدول المستقرة ديمقراطيا لتلك الآليات لتناول العنف و غياب العدالة بآثر رجعي، هي ظاهرة تستحق الدراسة في حد ذاتها.
في استراليا، قضية العنف ضد السكان الأصليين اثارت جدلا كبيرا مؤخرا . ففي عام 1995 طلب النائب العام الأسترالي من اللجنة الأسترالية لحقوق الإنسان الرجوع للسبعينيات لنظر حوادث نزع حضانة أطفال السكان الأصليين منهم. و بالفعل في عام 1997، قدمت اللجنة تقريرها الشهير" لنأخذ الأطفال المخطوفين للبيت" للبرلمان و تم نشره للجماهير. و من ضمن التدابير التي نص عليها التقرير، ضرورة الإعتذار الحكومي الرسمي عن  سماحها بتلك الإنتهاكات و ضرورة تعويض المتضررين ماليا.و قد اعلن رئيس الوزراء جون هوارد ندمه على تلك الممارسات الغير عادلة، و لكن الإعتذار الرسمي من الدولة لم يصدر إلا في فبراير 2008 عن طريق رئيس الوزراء كيفين رود. و بقيت التعويضات محل خلاف في تطبيقها، فقد خصصت لها ميزانية في بعض الولايات ، بينما لم يتم ذلك في ولايات أخرى.
في كندا تم تأسيس لجنة للحقيقة و المصالحة في 2008 للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان ضد السكان الأصليين بأثر رجعي. و من ضمن تلك الإنتهاكات اجبار أطفالهم على الإلتحاق بالمدارس المسيحية، و تغيير ثقافتهم لجعلهم مثلهم مثل أطفال الوافدين فكريا و ثقافيا.و قد كانت الحكومة الكندية ، و قبل تكوين اللجنة في 2006، قد وافقت على تعويض حوالي 80000 ضحية لهذه الممارسات بمبالغ وصل اجماليها لاثنين بليون دولار كندي. و قد قدم رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر اعتذارا رسميا للضحايا في 2008.
و لم تتوقف نماذج الديمقراطيات المستقرة على التعامل مع قضايا السكان الأصليين فقط، فقد ذهبت نماذج أخرى لتعويض مستعمرات عن احتلالها،و تجارة الرقيق و التدخل في شؤون الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال اصدرت الحكومة البلجيكية  عام 2000 اعتذارا رسميا لرواندا و شعبها على الإبادة الجماعية التي وقعت في 1994 . و لكن من ناحية أخرى نرى جليا أن بعض تلك الديمقراطيات المستقرة تغفل عن عمد قضايا حالية تتعلق بالإبادة الجماعية و انتهاك حقوق الإنسان بشكل موسع عند تناول الحروب الحالية و الإرهاب الدولي.
و بالطبع هناك تباين من نوع أخر عندما ننظر في ملف الديمقراطيات المستقرة، فبينما تمت مراجعات للماضي الأليم و انتهاكاته في استراليا و كندا مثلا، نجد ان الدانمارك تنشط في مجال تعزيز القانون الدولي و تنتفض لانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى و ضرورة مساعدة الدول الفقيرة، بينما نجد رئيس وزراء تلك الدولة يرفض حديثا اجراء التحقيقات بشأن جرائم سرقة أطفال جرينلاند في الخمسينيات مثلما حدث في استراليا مع السكان الأصليين.
الخلاصة:
نتيجة للتباين الكبير بين الأنواع المختلفة التي ناقشناها لتطبيقات العدالة الإنتقالية، ظهرت الحاجة الماسة لتحديث مفهوم و نظرية العدالة الإنتقالية بما يتناسب مع كل ما سبق. و لكن يبقى من الأهداف الرئيسية و المشتركة لكل تطبيقات تلك العملية، وضع الضمانات لعدم تكرار الإنتهاكات، و خلق مجتمع أكثر عدالة، و العمل على تحقيق الإحتياج الحقيقي للضحايا.

المصدر:
مقال لتوماس اوبل هانسن الأستاذ المساعد في الجامعة الأمريكية الدولية في نيروبي، كينيا و الحاصل على الدكتوراة في القانون الدولي و العدالة الإنتقالية من جامعة ارهوس الدانمركية، كلية القانون، قسم فلسفة التشريع، في 2010

ترجمة و اعداد: سعيد عز الدين