Translate

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

ما هي العدالة الانتقالية ؟

العدالة الانتقالية هو منهج للتعامل مع كل من الانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان  و العمل على توفيرسبل الانصاف للضحايا وخلق أو تعزيز فرص التحول من للنظم السياسية ، والصراعات، وغيرها من الظروف التي قد تكون أساس هذه الانتهاكات.
وهكذا فمنهج العدالة الانتقالية يعمل لهدفين فيما يتعلق بالتعامل مع إرث من الانتهاك المنهجي أو الواسع النطاق. الأول هو كسب حد ادنى من العدالة للضحايا. و الثاني هو تعزيز إمكانيات  و و ضع آليات تحقيق السلام والديمقراطية و المصالحة . لتحقيق هذين الهدفين، فإن تدابير العدالة الانتقالية كثيرا ما تجمع بين عناصر الملاحقة القضائية ، المصالحة الوطنية ، و العدالة الإجتماعية .
العدالة الانتقالية ليست شكلا خاصا من أشكال العدالة . بل هي ، عملية تهدف لتطويع آليات العدالة و استحداث بعضها نتيجة ظروف فريدة تمر بها كل المجتمعات التي تمر بمراحل التحول من وقت يعد فيه انتهاك حقوق الإنسان هو الوضع الطبيعي للأمور . في بعض الحالات ، فإن هذه التحولات تحدث فجأة وتتسبب في عواقب واضحة وعميقة . وفي حالات أخرى، قد يستغرق ذلك عقود عديدة.
و يأتي أول ظهور للعدالة الانتقالية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وذلك بغرض تحقيق التحولات السياسية التي وقعت في أمريكا اللاتينية و أوروبا الشرقية والتي كانت لها مطالبات واضحة من أجل العدالة تقدمت. في ذلك الوقت، كان الناشطون في مجال حقوق الإنسان و غيرها من الجهات المعنية يتسائلون عن كيفية التصدي بفعالية للانتهاكات المنهجية للانظمة السابقة ولكن مع الوضع في الإعتبار تعزيز و ليس عرقلة - التحولات السياسية التي كانت جارية. وبما أن هذه التغييرات كانت تسمى شعبيا " الانتقال إلى الديمقراطية "، بدأ الناس تسمية هذا  الحقل الجديد المتعدد التخصصات " العدالة الانتقالية " أو " العدالة في الفترات الانتقالية .
من ضمن التدابير التي تم اعتمادها و الاتفاق عليها،الملاحقات القضائية التي شملت، عادة قادة النظام ؛و مبادرات معرفة الحقيقة ، مثل فتح الأرشيف الوطني لمحفوظات الدولة و إنشاء لجان الحقيقة الرسمية؛ وإنشاء برامج التعويضات للضحايا؛ و التحقيق مع موظفي الدولة، وخاصة (ولكن ليس حصرا) أفراد قوات الأمن.
ظهرت العدالة الانتقالية كجزء من الاعتراف بأن التعامل مع الانتهاكات الممنهجة أو واسعة النطاق يتطلب منهجا مميزا يستطيع النظر للماضي و للمستقبل في آن واحد: تهدف تدابير العدالة الانتقالية ليس فقط لإكرام الضحايا، ولكن أيضا للمساعدة على منع الإعتداء على ضحية مماثلة في المستقبل. و من الأهداف الطويلة الأجل لتدابير العدالة الانتقالية ، تعزيز السلام والديمقراطية، والمصالحة، مع التدقيق في ان كل هذه التدابير و التحولات ستساعد على منع الانتهاك المنهجي أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان مستقبلا.
العدالة الانتقالية اليوم:
العدالة الانتقالية اليوم هو مجال متنوع و نابض بالحياة . و مع نموه ، فقد وجد أرضية مشتركة مع حركات العدالة الاجتماعية ، فضلا عن مجالات حل النزاعات وبناء السلام ، و الذاكرة التاريخية ، على سبيل المثال لا الحصر.
و عندما تحولت السياقات الانتقالية من مجتمعات ما بعد الحكم السلطوي في الأرجنتين و تشيلي إلى مجتمعات ما بعد الصراع في البوسنة و الهرسك ، وليبيريا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية ، اتاح هذا التحول النوعي مجالا للابتكار وتوسيع حدود المفهوم السابق للعدالة الإنتقالية . فالتطهير العرقي والتهجير ، وإعادة إدماج المقاتلين السابقين ، والمصالحة بين المجتمعات ، ودور العدالة في بناء السلام ، أصبحت كل تلك القضايا الجديدة موضع اهتمام ممارسي العدالة الانتقالية للعمل على معالجتها . إعادة إدماج المقاتلين السابقين ، على سبيل المثال ، مسألة مهمة لعدة أسباب . أولا ، في صفوف المقاتلين السابقين قد يكون  هناك جناة أو حتى مدبري انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان . ثانيا ، و بشكل عام ، غالبا ما يتلقى المقاتلين السابقين، المال والتدريب على العمل كحوافز لنزع السلاح، في حين عادة ما يتلقي الضحايا القليل أو لا شيء على الإطلاق من أجل المساعدة في إعادة بناء حياتهم. هذه الاختلالات  الغير حكيمة،تستحق الشجب أخلاقيا . ويمكن أن تعزز الاستياء ، مما يجعل المجتمعات المستقبلية أكثر ترددا فيما يخص إعادة إدماج المقاتلين السابقين ، و قد تهدد أيضا الاستقرار ما بعد الصراع .
و عندما تحولت السياقات الانتقالية جغرافيا من أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا إلى أفريقيا و آسيا ، فقد استغل النشطاء في مجال  العدالة الانتقالية أيضا تدابير العدالة "التقليدية" المحلية في بعض الأحيان ، والتي يمكن أن تقدم عنصرا مكملا هاما للعدالة الانتقالية . في بعض البلدان ، مثل سيراليون و أوغندا ، تستخدم المجتمعات المحلية الطقوس التقليدية من أجل تعزيز المصالحة بين الأطراف المتحاربة أو إعادة دمج المقاتلين السابقين .
في مثل هذه الحالات، يكون دور العدالة الانتقالية هو ضمان اتباع منهج شامل قد يشمل الطقوس، ولكن بدون استبعاد إمكانية العدالة الجنائية في حق الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية عن ارتكاب جرائم خطيرة ، ولا تنفيذ تدابير العدالة الأخرى ، مثل التعويضات ، لتوفير المزيد من أشكال التعويض .
على الصعيد العالمي ، من أستراليا والولايات المتحدة إلى غواتيمالا وجنوب أفريقيا ، قد عدلت حركات العدالة الاجتماعية آليات عملها لتتبنى تدابير العدالة الانتقالية من أجل الحصول على التعويض عن موروثات الظلم الممنهج . غالبا ما تركز هذه الحركات جهودها على الانتهاكات المتعلقة بالاستثناءات طويلة الأجل الناتجة عن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والعرقية ، أو  على أساس الجنس ، عوضا عن الإساءات الجسدية ، مثل القتل والاختفاء القسري، و التي كانت هي قلب العديد من جهود العدالة الانتقالية المبكرة.
و مع توسع المفهوم و تنوعه على مدى السنوات العشرين الماضية ، فقد وضع له أيضا أساسا هاما في القانون الدولي . و يعد احد امثلة الأساس القانوني للعدالة الانتقالية قرار 1988 الصادر عن محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان في قضية فيلاسكيز رودريغيز ضد هندوراس ، التي وجدت فيها محكمة البلدان الأمريكية أن على جميع الدول الأربع الأساسية ، الإلتزام بحد أدنى من الإلتزامات في مجال حقوق الإنسان . وهي:
-          اتخاذ خطوات معقولة لمنع انتهاكات حقوق الإنسان
-          إجراء تحقيق جدي في الانتهاكات عند وقوعها
-          فرض عقوبات مناسبة على  المسؤولين عن الانتهاكات
-          ضمان الجبر لضحايا الانتهاكات
وقد أكد جوهر القرار ضمنيا و أيد في السوابق القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان و قرارات الهيئات المنشأة بموجب معاهدات الأمم المتحدة مثل لجنة حقوق الإنسان .كما تم إدراج العدالة الإنتقالية بشكل مباشر في العديد من وثائق الأمم المتحدة الهامة مثل تقاريرعام 1997، عام 2004، و 2005 للمقررين الخاصين بالأمم المتحدة بشأن مكافحة الإفلات من العقاب ، وتقرير الأمين العام  في 2004 بشأن سيادة القانون والعدالة الانتقالية في الصراع ، و مجتمعات ما بعد الصراع . وكان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية  عام 1988أيضا  بمثابة خطوة كبيرة ، فقد كرس النظام الأساسي للمحكمة التزامات الدول بشكل حيوي بمكافحة الإفلات من العقاب واحترام حقوق الضحايا. المنهج الشمولي للسياقات الانتقالية ينطوي دائما على الكثير من المعضلات القانونية و الأخلاقية والسياسية ، فالتعامل مع الانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان تكون من بين الأكثر حساسية سياسيا وصعبة عمليا . فقد تؤثر فيها موازين القوى السياسية في كثير من الأحيان ، ويمكن أن تكون الحكومات غير راغبة لمتابعة مبادرات العدالة الانتقالية واسعة النطاق ، كما انها قد تكون غير قادرة على القيام بذلك دون تعريض استقرارها للخطر.
في أعقاب الانتهاكات الجسيمة ، يأخذ مجال العدالة الجنائية في كثير من الأحيان مركز الصدارة ، بسبب الحاجة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة ، و للشكل الدرامي المتأصل في جلسات قاعة المحكمة . كان هذا هو الحال في الأرجنتين ، حيث كانت تتعلق أبصار الجمهور بمحاكمات قادة المجلس العسكري الحاكم في الثمانينيات في وقت سابق . لكن العدالة الجنائية يمكن أن تواجه مشاكل كنهج مستقل بالسعي لتحقيق العدالة . خصوصا مع حالات إساءة المعاملة الواسعة النطاق ، مثل الإبادة الجماعية ، قد يكون هناك عشرات أو حتى مئات الآلاف من الضحايا و الجناة. كيف يمكن أن يتم التعامل مع كل هذه القضايا من خلال النظام القضائي؟  بالإضافة إلى ذلك، قد يكون القضاء به ما به من فساد، يحتاج لإصلاح مؤسسي ، حيث أنه في أغلب الأحيان يكون جهازالشرطة والمدعين العامين والقضاة إما في حالة ضعف و عدم مهنية أو فساد مؤسسي ، أو  قد يكون عددهم لا يسمح بتغطية كل هذه الإنتهاكات و القضايا، للعمل من أجل المصلحة العامة وضمان حقوق الضحايا في العدالة .
وبصرف النظر عن مسألة ما إذا كانت التدابير القضائية لديها القدرة على معالجة الانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان ، هناك مسألة ما إذا كانت كافية ، في حد ذاتها ، في القيام بذلك. في الواقع ، العدالة الانتقالية تعمل من خلال قناعة بأن تلك التدابير ليست كافية وحدها.
الانتهاكات الماضية غالبا ما تكون من التعقيد بحيث لا يمكن حلها بواسطة التدابير القضائية مثل المحاكمات وحدها . فبعد عقدين من الممارسة والخبرة حتى الآن تأكد أنه، لكي تكون  تلك العملية فعالة، يجب أن تكون العدالة الانتقالية شمولية. بحيث تتكون من العديد من المبادرات التي تكمل وتعزز بعضها البعض . و تشمل هذه المبادرات عدة عناصر مثل :
 أولا:المحاكمات الجنائية و التحقيقات القضائية مع المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان.
 ثانيا: لجان تقصي الحقائق وهي لجان مخصصة للتحقيق تشكلها و تأذن بتشكيلها الدول للأغراض الأولية من التحقيق ولتلقي البلاغات في الإنتهاكات عن الفترات الرئيسية لتعاطي الماضي القريب . و هي غالبا ما تخرج بتوصيات لمعالجة هذه الانتهاكات ومنع تكرارها. 
ثالثا: برامج التعويض هي المبادرات التي ترعاها الدولة والتي تهدف إلى المساهمة في جبر الضرر، و على نطاق واسع ، سواء من الناحية المادية أو المعنوية و الرمزية في اعقاب الفترات الماضية التي كان يعاني منها فئات معينة من الضحايا.
رابعا: اصلاح النظام الأمني بحيث تتحول الشرطة و القوات المسلحة و القضاء و غيرها من المؤسسات ذات الصلة من مؤسسات قمعية و فاسدة إلى أدوات للخدمة العامة و النزاهة.
 وخامسا: و اخيرا  العمل على الحفاظ على الذاكرة العامة للضحايا ورفع الوعي الأخلاقي بشأن انتهاكات الماضي من خلال الجهود لإحياء ذكراهم عن طريق المتاحف والنصب التذكارية، وغيرها من الوسائل ، من أجل بناء حصنا ضد تكرارتلك الإنتهاكات.
كيف تعمل تدابير العدالة الإنتقالية معا؟
عمليا ونظريا، تدعو مختلف تدابير العدالة الانتقالية لبعضها البعض بشكل متكامل. هذا المنطق يصبح واضحا عندما ينظر المرء إلى العواقب المحتملة لتنفيذ أي واحدة منهم في عزلة عن الآخرين.
فبدون أي معرفة للحقيقة، والإصلاح المؤسسي، أو جهود جبر الضرر، فمعاقبة عدد محدود جدا من الجناة يمكن أن ينظر إليه باعتباره تقديم كبش فداء أو شكل من أشكال الانتقام السياسي. قول الحقيقة، بمعزل عن جهود معاقبة المسيئين، والإصلاح المؤسسي، و تعويض الضحايا ، ويمكن أن ينظر إليه باعتباره لا شيئ أكثر من مجرد كلمات رنانة . جهود تخليد الذكرى، أيضا، من المحتمل أن تبدو ضحلة وغير صادقة عندما لا تستكملها جهود أكثر قوة. الجبر دون أي استناد إلى تدابير العدالة الانتقالية الأخرى قد ينظر إليه على أنه - محاولة لشراء صمت الضحايا . وبالمثل، إصلاح المؤسسات بدون أي محاولة لتلبية  حقيقية لتوقعات الضحايا المشروعة من العدالة والحقيقة، وجبر الضرر، لن يكون فعال ليس فقط من وجهة نظر المساءلة، لكن من المستبعد أن ننجح في تلبية الشروط الخاصة لهذا الإصلاح داخل تلك المؤسسة لعدم توافر الحافز لذلك من خلال تطبيق باقي التدابير.
تنفيذ هذه التدابير من خلال هيكل سليم وتسلسل مناسب قد يكون تحديا معقدا. هناك بعض القواعد العامة التي يجب ذكرها. أولا، ينبغي تنظيم تدابير العدالة الانتقالية بطريقة تساعد على تحقيق أقصى قدر من التكامل و تفادي كل احتمالات الصراع أو التناقض. ثانيا، ينبغي أن تكون العلاقات المتبادلة بين التدابير  واضحة و غيرغامضة أو معقدة ، مما قد يكون له تأثير عكسي من إثارة البلبلة حول  الهدف من كل تدبير و مما قد يقلل من المشاركة العامة وبالتالي تثبيط الدعم الشعبي. وثالثا، ينبغي ان يتسم تسلسل التدابير المختلفة للعدالة الانتقالية بالمساعدة على الحفاظ على وتعزيز العناصر المكونة للانتقال للديمقراطي نفسه والحفاظ على السلام ، فبدون ذلك فتأثير تلك التدابير قد يقل أو ينعدم من حيث النطاق والجودة.
نظرة مستقبلية:
في نهاية المطاف، ليس هناك صيغة واحدة للتعامل مع الماضي الذي شابته انتهاكات واسعة النطاق ومنهجية. كل مجتمع ينبغي ان تكون له الحرية في اختيار طريقته الخاصة. و حتى الآن، الممارسة علمتنا أن خيارات المجتمع تكون فعالة عندما تستند إلى دراسة جادة للخبرات الوطنية والدولية. فمثل هذه الدراسات تقلل من احتمال تكرار أخطاء يمكن تجنبها، والتي نادرا ما يمكن أن تتحملها المجتمعات الانتقالية. ضمان التشاور النشط والمشاركة من قبل، مجموعات الضحايا والجمهور هو عامل آخر حاسم. وبدون هذا التشاور والمشاركة، يتقلص إلى حد كبير احتمال تصميم وتشغيل سياسات العدالة الانتقالية ذات المصداقية والفعالية.
وتدابير العدالة الانتقالية التي تهمل من عانوا من انتهاكات مختلفة ومعقدة من النساء، فضلا عن الأنماط الجندرية من سوء المعاملة التي ربما تكون قد حرمت كل من النساء والرجال من الوصول إلى العدالة، ستضيع كل الفرص الرئيسية لمعالجة موروثات النوع الاجتماعي من التسلط والصراع.
ومن المهم أيضا ضمان التبادل الفكري والعملي المستمر بين المتخصصين في مجال العدالة الانتقالية وأولئك الذين يعملون في مجالات أخرى وثيقة الصلة مثل تسوية النزاعات، وتحقيق الديمقراطية والتنمية وبناء السلام، ومكافحة الفساد. هذه العملية هي ضرورية لخلق السياسات الشاملة و الواقعية على حد سواء .

وأخيرا، لأن العدالة الانتقالية هو مجال جديد نسبيا، هناك حاجة إلى التقييم المستمر لتدابير العدالة الانتقالية. فمن خلال التقييم، سنتمكن من وضع السياسات المستقبلية  و الوقوف على أفضل فرصة ممكنة لتحقيق الأهداف الآنية التي توفر سبل الانصاف للضحايا، فضلا عن أهداف المدى الطويل من السلام والتحول الديمقراطي، والمصالحة.

المصدر: 

ترجمة : سعيد عز الدين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق